في الطب، كان التوجه القديم عند مواجهة مريض في حالة polytraumatisme هو محاولة معالجة كل الإصابات دفعة واحدة قبل نقله إلى قسم الإنعاش. لكن مع تطور الطب، خاصة في سياق الحروب، تغيّر هذا المنهج لصالح استراتيجية أكثر فعالية تُعرف بـ “Damage Control” أو التحكم في الأضرار.
الفكرة بسيطة لكنها ثورية: لا تحاول إصلاح كل شيء فورًا. أوقف النزيف أولًا. ثبّت الكسور الأساسية. أدخل المريض إلى الإنعاش. وبعد أن تستقر حالته، ارجع لعلاجه بشكل نهائي.
هذا النموذج يمكن تطبيقه بدقة على ما تعيشه تونس اليوم. فنحن لا نواجه أزمة عادية، بل حالة “صدمة اقتصادية واجتماعية متعددة الأبعاد”، أبرز ملامحها النزيف الحاد الذي يصيب الطبقة المتوسطة، وخاصة الطبقة المتوسطة الدنيا، التي تُعد العمود الفقري لأي استقرار اجتماعي واقتصادي.
⛔ نزيف الطبقة المتوسطة: ناقوس خطر
حسب التصنيفات المستندة إلى الدخل السنوي:
• الأفراد الذين كانوا ينتمون إلى الطبقة المتوسطة الفرد الذي كان دخله الشهري يضعه في الطبقة المتوسطة الدنيا (أي بين 600 و1200 دينار شهريًا، أي ما يعادل 7,200 إلى 14,400 دينار سنويًا) أصبح اليوم عاجزًا عن الحفاظ على مستوى معيشته، بسبب التضخم وتآكل القدرة الشرائية وتراجع الصادرات في كل المجالات .
العائلات التي كانت تنتمي إلى الطبقة المتوسطة الدنيا (بدخل سنوي بين 21,600 و36,000 دينار) بدأت تفقد استقرارها المادي وتواجه خطر الفقر المدقع.
🛑 المرحلة الأولى: إيقاف النزيف
• دعم مباشر وشفاف للطبقة المتوسطة الدنيا (إعفاءات ضريبية، تسهيلات تمويلية على عكس قانون الشيكات في سبيل المثال )
• وقف السياسات التي تُجهز على المدخرات الصغيرة والمتوسطة.
• وقف الضرائب والرسوم المفاجئة التي تضرب الفئات المنتجة والمبادِرة.
• وقف استهداف الطبقة الثرية المنتجة التي تمثل أحد محركات الاقتصاد الوطني، وتشجيعها على الاستثمار بدل دفعها نحو الانغلاق أو الهجرة.
⚖️ المرحلة الثانية: تثبيت الوضع الاقتصادي
• إصلاح بيئة الاستثمار والقضاء على الغموض القانوني والبيروقراطي.
• تسهيل تمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة.
• إعادة الاعتبار للمبادرة الفردية والعمل المنتج.
🚀 المرحلة الثالثة: بناء طريق الصعود الطبقي
• تشجيع الاستثراء المشروع، ورفع الوصمة عن الثروة الناتجة عن الجهد والابتكار.
• بناء نظام صعود طبقي مفتوح، عوضًا عن أن يبقى حكراً على طبقة بيروقراطية أو عسكرية، أو على تحالف نخبوي حلّ محلّ الطبقة الرأسمالية التقليدية المنتجة و المصدرة دون أن يخلق ثروة جديدة.
• وجود طبقة ثرية قوية ومتنامية ليس تهديدًا بل شرطٌ ضروري لإنعاش الاقتصاد الوطني، فهي:
• تخلق فرص العمل.
• تستثمر في المشاريع الكبرى.
• تنشط الدورة الاقتصادية عبر الاستهلاك والإنتاج والادخار.
لكن هذا لا يمكن أن يحصل إلا إذا توفرت منافسة حرة وعادلة، عبر:
• محاربة الاحتكار ومنع سيطرة القلة على القطاعات الحيوية.
• إلغاء الاقتصاد الريعي الذي يمنح النفوذ والثروة بناءً على القرب من السلطة لا على الكفاءة.
• تفكيك البيروقراطية الخانقة التي تخنق المبادرات وتطرد المستثمرين.
• حذف كراسات الشروط المصمّمة على قياس المحتكرين.
• إعادة ضبط دور الجمعيات والغرف المهنية التي تحولت في بعض القطاعات إلى أدوات لإقصاء المنافسين والتحكم في السوق.
✅ خلاصة:
تونس لا تحتاج فقط إلى “خطة إنقاذ”، بل إلى “مرحلة إنعاش” أولًا.
يجب وقف النزيف قبل محاولة علاج كل شيء.
يجب حماية الطبقة المتوسطة لأنها الحامل الاجتماعي للاستقرار والتقدم.
ويجب السماح لكل تونسي بالصعود الطبقي دون أن يصطدم بجدار الاحتكار أو الريع أو البيروقراطية.
الثراء المشروع ليس عارًا، بل أمل ، والمنافسة النزيهة ليست تهديدًا، بل فرصة.
دينغ شياو بينغ، القائد الصيني الثاني الذي خلف ماو تسي تونغ وقاد التحول نحو اقتصاد السوق، هو صاحب المقولة الشهيرة: “الثراء مجيد” (To get rich is glorious)، والتي أصبحت شعارًا ضمنيًّا للإصلاحات الاقتصادية التي أطلقت الثورة الاقتصادية الصينية منذ أواخر السبعينات.




تعليقات
0